اعتدنا بشكل دوري وبرتابة مملة عبر العقود الماضية أن تثور زوبعة مفاجئة حول تدريس عمل أدبي ما في قسم اللغة الإنجليزية، يدعي مثيرو تلك الزوبعة حرصهم بل وغيرتهم على القيم الإخلاقية لمجتمعنا التي قد يزعزعها بل قد يدمرها تدريس هذا النص. تهمة إفساد عقول الشباب تهمة قديمة قدم سقراط في القرن الرابع قبل الميلاد الذي اتهم بإفساد عقول الشباب فكان جزاؤه أن يتجرع السم ويموت، والآن يخرج علينا السيد محمد عبد الحافظ شاهراً سيفه الأخلاقي ليعطينا بوصفنا أساتذة الأدب الإنجليزي بالجامعات المصرية درساً في ما يجب علينا أن نقرره في مناهجنا الدراسية وما ينبغي علينا تجنبه وإلا فإن الاتهامات جاهزة التصنيع تنتظرنا، وما أدراك ما تلك الاتهامات.
أذكر من سنوات طويلة أن الدنيا قامت ولم تقعد حول تدريس رواية إنجليزية من القرن الثامن عشر عنوانها مول فلاندرز وتعتبر من أول رواية إنجليزية بمفهومها الحديث حيث تتناول من منظور واقعي حياة امرأة ولدت في السجن ونبذها المجتمع فتحولت إلى الرذيلة، الرواية تحتوي على نقد لاذع للمجتمع الإنجليزي في القرن 18 من حيث إساءة معاملة المرأة ودفعها دفعاً إلى الرذيلة وانتقاد شرس لكل المنافقين الذين يدّعون الأخلاق والأخلاق منهم براء. انصب الهجوم على تدريس هذه الرواية من منطلق أننا لا ينبغي أن ندرس عملاً تكون بطلته امرأة على هذه الشاكلة، بغض النظر عن سياق الرواية أو أهميتها في تشكيل الوعي الأدبي والثقافي للمجتمع الإنجليزي.
تذكرت هذه الواقعة حيث تثور الآن زوبعة جديدة على تدريس قصة قصيرة لطلاب قسم اللغة الإنجليزية، فالهجوم يأتي من نفس المنطلق الفكري ومن نفس الدعوة إلى سد الباب الذي يأتي من الريح لكي نستريح، المشكلة هي أننا لو سددنا الباب فالأرجح أننا سنصاب جميعاً بالاختناق. وفي هذا السياق أود أن أقرر بعض الحقائق التي قد تكون بديهية ولكنها قد تغيب في خضم الاتهامات الملقاة جزافاً والتهديدات التي قد يتعرض لها القائمون على تدريس الأدب وعلى وجه الخصوص الآداب الأجنبية في الجامعات المصرية:
1. دراسة الأدب بشكل عام تعني قراءة وتحليل ومناقشة شتى النصوص الأدبية بوصفها التعبير الصادق عن البيئة الثقافية النابعة منها. دراسة نص ما لا يعني على الإطلاق تبني وجهة نظر الكاتب أو شخصية من شخصياته أو التوجه الفكري للشخصية، وهي بهذا دراسة علمية لا يجب أن تختلف كثيراً عن الدراسات الإنسانية الأخرى مثل الأنثروبولوجيا أو علم الاجتماع أو غيرها من العلوم التي تعنى في المقام الأول بدراسة الانسان بكل نقائصه وقصوره وتجلياته وإبداعاته. وإذا كانت المثلية ظاهرة اجتماعية تتم دراستها من منظور علم الاجتماع وعلم النفس والطب فكيف يمكن لدراسة الأدب تجنب التعرض في نص أو آخر لمثل هذه الظاهرة أو غيرها من الظواهر؟
2. دراسة الآداب الأجنبية سواء الغربية منها أو الشرقية تعني ضرورة الإلمام الكامل بثقافة مختلفة وفهمها فهماً دقيقاً حتى وإن لم تتوافق بالضرورة مع منظور الدارس أو المدرس، ولكن فهمها واستيعابها هو واجب لفهم هذه الثقافة، فهل كل من درس الإسلام اعتنقه؟ في حالة الطالب الذي يدرس الأدب الهندي مثلاً وكان هناك نص يتحدث عن تناسخ الأرواح فهل ينبغي منعه من دراسته خشية أن يتبنى الفكرة؟ واجب الطالب الدارس للثقافات الأجنبية أن يدرسها بعمق لا أن يتبناها كعقيدة أو توجه في الحياة. أما القول بأن أي تعرض لفكر مغاير لأفكارنا يمثل تهديداً لثقافتنا ففي هذا حط من قدرنا وإيمان بأن ثقافتنا هشة ضعيفة لا تقوى على المقاومة. مثال آخر: قام مترجم في ندوة ما بترجمة كلمةGAY بمعناها الحرفي وهو "مرح" بدلاً من "مثلي" حيث اكتسبت الكلمة هذا المعنى في العصر الحديث. مما كان مثاراً للسخرية حيث أدرك المستمعون أنه مترجم فاشل ولا شك أن دراسته قد توقفت عند القرن التاسع عشر عندما كانت الكلمة تستخدم بهذا المعنى. كيف لطالب أن يحقق الامتياز والاتقان في اللغة التي يدرسها بدون إلمام شامل بكل جوانب هذه الثقافة؟ ربما بدا هذا المثال سطحياً حيث يعتقد البعض أن بالإمكان دراسة لغة أجنبية بدون المرور بثقافتها وهذا كلام لا أساس له من الصحة إلا إذا كان الهدف من الدراسة هو أن يتعلم الطالب مثلا كيف يطلب كوباً من الشاي في مطعم باستخدام لغة أجنبية، ولكن لكي يكون الطالب مؤهلا ليترجم أو يتواصل باستخدام اللغة الأجنبية فلا مفر من قراءة شتى النصوص فمنها يتعلم ويتقن. ولهذا فلو قررنا التخلص من أجزاء من النصوص التي ندرسها سنكون بهذا نحرم الطالب من المعرفة التي هي ضرورية لكي يصبح كاتبا أو مترجما أو مدرسا متميزا ومتمكناً من أدواته.
3. جاء مقال السيد محمد عبد الحافظ "حرية: تدريس الشذوذ في جامعة القاهرة" المنشور في جريدة الأخبار 18 يونيو 2011 يحمل هجوماً شديداً على جامعة القاهرة وقسم اللغة الإنجليزية بشكل خاص. السيد عبد الحافظ مع كل تقديري لشخصه لا يمكن أن يكون قد قرأ القصة القصيرة (التي يصفها خطأ بأنها رواية) وإلا لأدرك أن هذه القصة تأتي ضمن مجموعة من القصص القصيرة تحت اسم "بياض الثلج والأحمر القاني" في إشارة لحكايتي سنو وايت (بياض الثلج) وذات الرداء الأحمر ويأتي هذا العمل ضمن إطار أدبي يقوم فيه الأدباء بإعادة قراءة الحكايات الشعبية والخيالية الشهيرة مثل "سندريللا" و"بياض الثلج" (وهي الإلهام من وراء هذه القصة) وإعادة صياغتها من منظور عصري جديد، وجميع هذه القصص تنضوي تحت عنوان أدب الفانتازيا أو أدب الخيال وتعتبر تعبيراً عن رفض الأنماط السائدة في المجتمع والتي كرسها المجتمع عبر قرون طويلة من خلال الحكايات الشعبية. القصة التي يعترض عليها السيد عبد الحافظ تعيد صياغة قصة "بياض الثلج" وليست عملاً واقعياً بأي حال من الأحوال. اجتزاء بضعة سطور منها للوصول إلى أحكام اخلاقية مغلوطة لا يدل إلا على سطحية الفكر.
4. الدراسة العلمية للأدب (نعم العلمية) تعني أن نقدم للطالب الأوجه المختلفة للثقافة التي يدرسها فالأدب الإنجليزي أو الأمريكي أو الفرنسي أو الياباني (وقد يأتي ذلك كصدمة للبعض) لم يكتب من أجل الطالب المصري فهو يحتوي على ثقافة مختلفة وربما تكون أيضاً متناقضة مع ثقافتنا، ولكن العلم والمعرفة لا يجب أن يكون لهما حدود. فنحن إذا نادينا بمنع تدريس عمل لأنه يتناقض مع بعض الأفكار السائدة فسيأتي الدور على بقية العلوم فلا ينبغي تدريس نظرية النشوء والارتقاء لداروين أو النظرية النسبية لأينشتاين أو علم الأجنة، بل ودعونا لا ندرس الأنثروبولوجيا أو علم الإنسان الذي قد يحتوي على ممارسات مسيئة لثقافتنا بل دعونا لا ندرس أدبنا العربي الذي قد يحتوي على أفكار لا تعجب البعض. بل أكثر من ذلك دعونا لا ندرس الفلسفة حيث أن الميتافيزيقيا تتناول فكرة الوجود وماهية الانسان. الدكتور عبد الرحمن بدوي عندما كتب كتابه من تاريخ الإلحاد في الإسلام في عام 1964 لم يكن بالطبع يروج للفكر الإلحادي ولكنه كان يؤرخ لحقبة من تاريخنا الإسلامي، ومن واجب دارسي الفلسفة الإسلامية أن يطلعوا عليه ويفهموه كجزء من تراثنا.
5. استخدم السيد عبد الحافظ للأسف خطاباً مسيئاً يحتوي على التهديد والترهيب والتحريض، فهو يصف القصة بأنها "متدنية" و"منحطة" و"إباحية" وغير ذلك من الفاظ غير لائقة. ويقرر "وطبعا القصة صادمة وسيجمع كل من يقرأ هذه السطور علي أنها غير اخلاقية وإباحية". السؤال للأستاذ الفاضل هو: من أين لك بتلك الثقة العمياء أن الجميع سيجمع على مقولتك هذه؟ كيف لك أن تتحدث باسم الجميع كما لو كانوا قد عينوك حارساً على الإخلاق؟ هل تناقشت مع أي من الأساتذة حول المغزى من هذا العمل أم أنك بنيت موقفك ارتكازاً على رأي طرف واحد قد يكون مغرضاً أو جاهلا أو كليهما؟ وفي جميع الأحوال ألم يكن من الأجدر وأنت تذيل مقالك بكل تقوى وورع "ألا قد بلغت.. اللهم فاشهد" أن تجادلهم بالتي هي أحسن بدلاً من الوعيد والتهديد؟ أليس ذلك من مكارم الأخلاق كما تعلمناها؟
6. في لقائه التليفزيوني على أون تي في قام السيد عبد الحافظ باتهام اساتذة أقسام اللغة الإنجليزية بأنهم لا يجيدون العربية ولا يجيدون التعامل سوى باللغة الإنجليزية، وهو اتهام يثير الضحك والسخرية فأقسام اللغات كانت دائماً همزة الوصل بين الحضارة العربية وغيرها من الحضارات الأجنبية، وهل يمكن أن تقوم نهضة بدون حركة قوية للترجمة؟ أقسام اللغة الإنجليزية في مصر كانت وما تزال جزءاً أصيلاً من الحركة الثقافية في مصر فهل يمكن إغفال الدور الثقافي الذي لعبته شخصيات مثل عبد الوهاب المسيري ولويس عوض ورضوى عاشور وغيرهم الكثيرون؟ هذا الاتهام للأسف لا يرمي فقط للتشكيك في قدراتنا وكفاءتنا في اللغة العربية فقط ولكنه قد ينسحب أيضاً على ولائنا لبلدنا، أي أنه قد يدعو البعض للتشكيك في انتمائنا للوطن وربما لتخويننا بوصفنا نحمل أجندات تعمل ضد مصلحة الوطن لصالح أطراف أجنبية. ألا يصب ذلك في الحملة الغريبة التي شنها بعض الدعاة المتشددين منذ فترة وجيزة حملة شعواء على أقسام اللغات في الجامعة وطالب بإغلاقها بوصفها تنتج شخصيات "مشوهة فكرياً".
التدخل في المحتوى الأكاديمي لما يدرّس أو ما لا يدرّس هو أمر مرفوض تماماً تحت أي ادعاءات اخلاقية. تقرير ما يدرس أو لا يدرس هو أمر يضطلع به أهل الخبرة في هذا المجال وهو مجلس قسم اللغة الإنجليزية، وما قام به السيد عبد الحافظ يدخل في نطاق السب العلني والتحريض الصريح ضد مؤسسة عريقة مثل جامعة القاهرة ويحمل تشويها متعمداً للحقائق ويرمي إلى الترهيب الفكري ويعود بنا إلى محاكمات الرأي والتفتيش عن النوايا. الحرية الأكاديمية يا سادة غير قابلة للمساومة وإلا فلتغلقوا الجامعة إذن وتسدوا هذا الباب المزعج الذي تأتي منه رياح الحرية.
1 comment:
increase page rank seo basics backlink service 10000 backlinks
Post a Comment